سورة النساء - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)}
يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وفي حديث الحسن، عن سمرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك». رواه الإمام أحمد وأهل السنن وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان، من حقوق الله، عز وجل، على عباده، من الصلوات والزكوات، والكفارات والنذور والصيام، وغير ذلك، مما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به بعضهم على بعض من غير اطلاع بينة على ذلك. فأمر الله، عز وجل، بأدائها، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة، كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها، حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود قال: إن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة، يؤتى بالرجل يوم القيامة- وإن كان قد قتل في سبيل الله- فيقال: أد أمانتك. فيقول وأنى أؤديها وقد ذهبت الدنيا؟ فتمثل له الأمانة في قعر جهنم، فيهوي إليها فيحملها على عاتقه. قال: فتنزل عن عاتقه، فيهوي على أثرها أبد الآبدين. قال زاذان: فأتيت البراء فحدثته فقال: صدق أخي: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}.
وقال: سفيان الثوري، عن ابن أبي ليلى عن رجل، عن ابن عباس قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} قال: هي مبهمة للبر والفاجر.
وقال محمد بن الحنفية: هي مسجلة للبر والفاجر.
وقال أبو العالية: الأمانة ما أمروا به ونهوا عنه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد، حدثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: قال أبي بن كعب: من الأمانة أن المرأة ائتمنت على فرجها.
وقال الربيع بن أنس: هي من الأمانات فيما بينك وبين الناس.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} قال:
قال: يدخل فيه وعظ السلطان النساء. يعني يوم العيد. وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، واسم أبي طلحة، عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب القرشي العبدري، حاجب الكعبة المعظمة، وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم، أسلم عثمان هذا في الهدنة بين صلح الحديبية وفتح مكة، هو وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وأما عمه عثمان بن أبي طلحة، فكان معه لواء المشركين يوم أحد، وقتل يومئذ كافرا. وإنما نبهنا على هذا النسب؛ لأن كثيرا من المفسرين قد يشتبه عليهم هذا بهذا، وسبب نزولها فيه لما أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح، ثم رده عليه.
وقال محمد بن إسحاق في غزوة الفتح: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعا على راحلته، يستلم الركن بمحجن في يده، فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له، فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف له الناس في المسجد.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة فقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى، فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانه البيت وسقاية الحاج».
وذكر بقية الحديث في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ، إلى أن قال: ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين عثمان بن طلحة؟» فدعي له، فقال له: «هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم وفاء وبر».
قال ابن جرير: حدثني القاسم حدثنا الحسين، عن حجاج، عن ابن جريج قوله: {إِنّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} قال: نزلت في عثمان بن طلحة قبض منه النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة، فدخل به البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه فدعا عثمان إليه، فدفع إليه المفتاح، قال: وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة، وهو يتلو هذه الآية: فداه أبي وأمي، ما سمعته يتلوها قبل ذلك.
حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا الزنجي بن خالد، عن الزهري قال: دفعه إليه وقال: أعينوه.
وروى ابن مردويه، من طريق الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، فلما أتاه قال: «أرني المفتاح». فأتاه به، فلما بسط يده إليه قام العباس فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، اجمعه لي مع السقاية. فكف عثمان يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرني المفتاح يا عثمان». فبسط يده يعطيه، فقال العباس مثل كلمته الأولى، فكف عثمان يده. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عثمان، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح». فقال: هاك بأمانة الله. قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح باب الكعبة، فوجد في الكعبة تمثال إبراهيم معه قداح يستقسم بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما للمشركين قاتلهم الله. وما شأن إبراهيم وشأن القداح». ثم دعا بحفنة فيها ماء فأخذ ماء فغمسه فيه، ثم غمس به تلك التماثيل، وأخرج مقام إبراهيم، وكان في الكعبة فألزقه في حائط الكعبة ثم قال: «يا أيها الناس، هذه القبلة». قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت شوطا أو شوطين ثم نزل عليه جبريل، فيما ذكر لنا برد المفتاح، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} حتى فرغ من الآية.
وهذا من المشهورات أن هذه الآية نزلت في ذلك، وسواء كانت نزلت في ذلك أو لا فحكمها عام؛ ولهذا قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية: هي للبر والفاجر، أي: هي أمر لكل أحد.
وقوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس؛ ولهذا قال محمد بن كعب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب: إنما نزلت في الأمراء، يعني الحكام بين الناس.
وفي الحديث: «إن الله مع الحاكم ما لم يَجُرْ، فإذا جار وكله إلى نفسه» وفي الأثر: عدل يوم كعبادة أربعين سنة.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} أي: يأمركم به من أداء الأمانات، والحكم بالعدل بين الناس، وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} أي: سميعا لأقوالكم، بصيرا بأفعالكم، كما قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، حدثني عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرئ هذه الآية {سَمِيعًا بَصِيرًا} يقول: بكل شيء بصير.
وقد قال ابن أبي حاتم: أخبرنا يحيى بن عبدك القزويني، أنبأنا المقرئ- يعني أبا عبد الرحمن-
عبد الله بن يزيد، حدثنا حرملة- يعني ابن عمران التجيبي المصري- حدثنا أبو يونس، سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} ويضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه ويقول: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ويضع أصبعيه. قال أبو زكريا: وصفه لنا المقري، ووضع أبو زكريا إبهامه اليمنى على عينه اليمنى، والتي تليها على الأذن اليمنى، وأرانا فقال: هكذا وهكذا.
رواه أبو داود، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وابن مردويه في تفسيره، من حديث أبي عبد الرحمن المقري بإسناده- نحوه وأبو يونس هذا مولى أبي هريرة، واسمه سُلَيْم بن جُبَير.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (59)}
قال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، حدثنا حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي؛ إذ بعثه رسول النبي صلى الله عليه وسلم في سرية.
وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من حديث حجاج بن محمد الأعور، به.
وقال الترمذي: حديث حسن غريب، ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن سعيد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، فلما خرجوا وَجَد عليهم في شيء. قال: فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: اجمعوا لي حطبا. ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها. قال: فهم القوم أن يدخلوها قال: فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها. قال: فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال لهم: «لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا؛ إنما الطاعة في المعروف». أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش، به.
وقال أبو داود: حدثنا مُسَدَّد، حدثنا يحيى، عن عبيد الله، حدثنا نافع، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة».
وأخرجاه من حديث يحيى القطان.
وعن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في مَنْشَطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثَرَةٍ علينا، وألا ننازع الأمر أهله. قال: «إلا أن تروا كفرا بَوَاحا، عندكم فيه من الله برهان» أخرجاه.
وفي الحديث الآخر، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة». رواه البخاري.
وعن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدا حبشيًا مُجَدَّع الأطراف. رواه مسلم.
وعن أم الحصين أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول: «ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، اسمعوا له وأطيعوا». رواه مسلم وفي لفظ له: «عبدا حبشيًا مجدوعا».
وقال ابن جرير: حدثني علي بن مسلم الطوسي، حدثنا ابن أبي فديك، حدثني عبد الله بن محمد بن عروة عن هشام بن عروة، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره، ويليكم الفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلوا وراءهم، فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساءوا فلكم وعليهم».
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون». قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: «أوفوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم» أخرجاه.
وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى من أميره شيئًا فكرهه فليصبر؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية». أخرجاه.
وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية». رواه مسلم.
وروى مسلم أيضا، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال: دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة، والناس حوله مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه، ومنا من يَنْتَضل، ومنا من هو في جَشَره إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة. فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًا عليه أن يَدُل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تُنْكرونها، وتجيء فتن يَرفُق بعضُها بعضا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماما فأعطاه صَفْقَة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عُنُق الآخر». قال: فدنوت منه فقلت: أنشدك بالله آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي، فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، ونقتل أنفسنا، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]قال: فسكت ساعة ثم قال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله.
والأحاديث في هذا كثيرة.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا أحمد بن المفضل حدثنا أسباط، عن السدي: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها خالد بن الوليد، وفيها عمار بن ياسر، فساروا قبل القوم الذين يريدون، فلما بلغوا قريبا منهم عَرَّسوا، وأتاهم ذو العُيَيْنَتَين فأخبرهم، فأصبحوا قد هربوا غير رجل. فأمر أهله فجمعوا متاعهم، ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل، حتى أتى عسكر خالد، فسأل عن عمار بن ياسر، فأتاه فقال: يا أبا اليقظان، إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا، وإني بقيت، فهل إسلامي نافعي غدا، وإلا هربت؟ قال عمار: بل هو ينفعك، فأقم. فأقام، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدًا غير الرجل، فأخذه وأخذ ماله. فبلغ عمارا الخبر، فأتى خالدا فقال: خل عن الرجل، فإنه قد أسلم، وإنه في أمان مني. فقال خالد: وفيم أنت تجير؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير. فاستبا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال خالد: يا رسول الله، أتترك هذا العبد الأجدع يَسُبُّني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا خالد، لا تسب عمارًا، فإنه من يسب عمارا يسبه الله، ومن يبغضه يبغضه الله ومن يلعن عمارا يلعنه الله» فغضب عمار فقام، فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه، فرضي عنه، فأنزل الله عز وجل قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ}
وهكذا رواه ابن أبي حاتم، من طريق عن السدي، مرسلا.
ورواه ابن مردويه من رواية الحكم بن ظهير، عن السدي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، فذكره بنحوه والله أعلم.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} يعني: أهل الفقه والدين.
وكذا قال مجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وأبو العالية: {وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} يعني: العلماء. والظاهر- والله أعلم- أن الآية في جميع أولي الأمر من الأمراء والعلماء، كما تقدم. وقد قال تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} [المائدة: 63] وقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وفي الحديث الصحيح المتفق عليه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصا الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصا أميري فقد عصاني».
فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء، ولهذا قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ} أي: اتبعوا كتابه {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أي: خذوا بسنته {وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} أي: فيما أمروكم به من طاعة الله لا في معصية الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله، كما تقدم في الحديث الصحيح: «إنما الطاعة في المعروف».
وقال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الرحمن، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أبي مرابة، عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا طاعة في معصية الله».
وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله.
وهذا أمر من الله، عز وجل، بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي: ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}
فدل على أن من لم يتحاكم في مجال النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر.
وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ} أي: التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله. والرجوع في فصل النزاع إليهما خير {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} أي: وأحسن عاقبة ومآلا كما قاله السدي وغير واحد.
وقال مجاهد: وأحسن جزاء. وهو قريب.


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا (63)}.
هذا إنكار من الله، عز وجل، على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد التحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية: أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد. وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف. وقيل: في جماعة من المنافقين، ممن أظهروا الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية.
وقيل غير ذلك، والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هاهنا؛ ولهذا قال: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}.
وقوله: {يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} أي: يعرضون عنك إعراضا كالمستكبرين عن ذلك، كما قال تعالى عن المشركين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لقمان: 21]هؤلاء وهؤلاء بخلاف المؤمنين، الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51].
{فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)}
ثم قال تعالى في ذم المنافقين: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم واحتاجوا إليك في ذلك.
{ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} أي: يعتذرون إليك ويحلفون: ما أردنا بذهابنا إلى غيرك، وتحاكمنا إلى عداك إلا الإحسان والتوفيق، أي: المداراة والمصانعة، لا اعتقادا منا صحة تلك الحكومة، كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52].
وقد قال الطبراني: حدثنا أبو زيد أحمد بن يزيد الحَوْطِيّ، حدثنا أبو اليمان، حدثنا صفوان بن عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس. قال: كان أبو بَرْزَة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} إلى قوله: {إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}
ثم قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي هذا الضرب من الناس هم المنافقون، والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك، فإنه لا تخفى عليه خافية، فاكتف به يا محمد فيهم، فإن الله عالم بظواهرهم وبواطنهم؛ ولهذا قال له: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: لا تعنفهم على ما في قلوبهم {وَعِظْهُمْ} أي: وانههم على ما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا} أي: وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13